البومة العمياء - ط الهلال صادق هدايت أدب عالمي•دراما (أدب عالمي) الأعمال الكاملة - صادق هدايت•المنزل المظلم•البعثة الاسلامية إلي البلد الإفرنجية و أسطورة الخلق•البومة العمياء
حلم قرية دينغ•الليل المقبل•مؤتمر المختفين•وحوش بلا وطن•الجنرالات يموتون في الفراش•وقت للحب ووقت للموت•مساهمة في تاريخ السعادة•الخادمة•خريف نوفمبر•إميل والمخبرون•سجن الحب•إيزابيل دي سوليس ملكة غرناطة - ثريا النصرانية
كانت أوديت غضة الشباب، نضيرة الوجه مثل زهور أول الربيع لها زوج من العيون مسكراً بلون السماء، وخصلات من الشعر الشقر كانت تتعمد أن تترك بعض الخصلات تتهدل على وجنتها. وكانت تجلس الساعات الطويلة إلى نافذة حجرتها وقد اتخذ وجهها وضعاً نصفياً شاحباً، ووضعت ساقاً على ساق، وتأخذ في قراءة رواية أو رتق جورب، أو تنهمك في أشغال الإبرة. وحينما كانت تداعب أوتار الكمان بلحن {فالس جريزريه} كان قلبي يكاد ينخلع من مكانه. كانت نافذة حجرتي تواجه نافذة حجرة أوديت وكم من الدقات والساعات وأحياناً كم من أيام الآحاد كنت أراقبها فيها من وراء زجاج نافذتي، وبخاصة في الليالي حينما كانت تخلع جوربيها وتأوي إلى فراشها. وهكذا نشأت رابطة بيني وبينها، وحينما كان يمر يوم من دون أن أراها، كنت أحسّ أن شيئاً قد ضاع مني، وفي بعض الأيام كانت تنهض وتغلق أحد مصراعي نافذتها من كثرة ما كنت أنعم النظر فيها. مرَّ أسبوعان ونحن نرى بعضنا كل يوم، ولكن نظرات أوديت كانت باردة لامبالاة فيها، دون ابتسامة أو حركة تظهر بها أنها تميل إلي، فقد كان وجهها بطبيعته جاداَ صارماَ. أما المرة الأولى التي التقينا فيها وجهاَ لوجه، فكانت ذات صباح حين ذهبت إلى المقهى الذي يقع على ناصية محلتنا للإفطار، وبينما أنا خارج منه رأيت أوديت وكانت تحمل حقيبة الكمان في طريقها إلى المترو، فسلمت فابتسمت، واستأذنت منها أن أحمل عنها الحقيبة وأسير معها، فأجابت بهزة من رأسها وهي تقول: {ميرسي} ومن هذه الكلمة بدأت علاقتنا. ومن ذلك اليوم فصاعداً كنَّا نفتح نوافذ حجرتينا ونتحدث على البعد بحركة اليد والإشارة، وتطور الأمر بأن كنا ننزل فنلتقي في حديقة اللكسمبورغ، ثم نذهب إلى الخيالة أو المسرح أو أحد المشارب، أو نقضي الوقت بطريقة أو بأخرى. كانت أوديت تعيش وحدها في المنزل، فقد كانت يتيمة الأب أما أمها فقد سافرت مع زوجها إلى مكان ما، وبقيت أوديت في باريس لأمور تتعلَّق بعملها.
كانت أوديت غضة الشباب، نضيرة الوجه مثل زهور أول الربيع لها زوج من العيون مسكراً بلون السماء، وخصلات من الشعر الشقر كانت تتعمد أن تترك بعض الخصلات تتهدل على وجنتها. وكانت تجلس الساعات الطويلة إلى نافذة حجرتها وقد اتخذ وجهها وضعاً نصفياً شاحباً، ووضعت ساقاً على ساق، وتأخذ في قراءة رواية أو رتق جورب، أو تنهمك في أشغال الإبرة. وحينما كانت تداعب أوتار الكمان بلحن {فالس جريزريه} كان قلبي يكاد ينخلع من مكانه. كانت نافذة حجرتي تواجه نافذة حجرة أوديت وكم من الدقات والساعات وأحياناً كم من أيام الآحاد كنت أراقبها فيها من وراء زجاج نافذتي، وبخاصة في الليالي حينما كانت تخلع جوربيها وتأوي إلى فراشها. وهكذا نشأت رابطة بيني وبينها، وحينما كان يمر يوم من دون أن أراها، كنت أحسّ أن شيئاً قد ضاع مني، وفي بعض الأيام كانت تنهض وتغلق أحد مصراعي نافذتها من كثرة ما كنت أنعم النظر فيها. مرَّ أسبوعان ونحن نرى بعضنا كل يوم، ولكن نظرات أوديت كانت باردة لامبالاة فيها، دون ابتسامة أو حركة تظهر بها أنها تميل إلي، فقد كان وجهها بطبيعته جاداَ صارماَ. أما المرة الأولى التي التقينا فيها وجهاَ لوجه، فكانت ذات صباح حين ذهبت إلى المقهى الذي يقع على ناصية محلتنا للإفطار، وبينما أنا خارج منه رأيت أوديت وكانت تحمل حقيبة الكمان في طريقها إلى المترو، فسلمت فابتسمت، واستأذنت منها أن أحمل عنها الحقيبة وأسير معها، فأجابت بهزة من رأسها وهي تقول: {ميرسي} ومن هذه الكلمة بدأت علاقتنا. ومن ذلك اليوم فصاعداً كنَّا نفتح نوافذ حجرتينا ونتحدث على البعد بحركة اليد والإشارة، وتطور الأمر بأن كنا ننزل فنلتقي في حديقة اللكسمبورغ، ثم نذهب إلى الخيالة أو المسرح أو أحد المشارب، أو نقضي الوقت بطريقة أو بأخرى. كانت أوديت تعيش وحدها في المنزل، فقد كانت يتيمة الأب أما أمها فقد سافرت مع زوجها إلى مكان ما، وبقيت أوديت في باريس لأمور تتعلَّق بعملها.